سورة الأنعام - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)}
قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ} أي بالقرآن. والإنذار الاعلام وقد تقدم في البقرة.
وقيل: {بِهِ} أي بالله.
وقيل: باليوم الآخر. وخص {الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا} لان الحجة عليهم أوجب، فهم خائفون من عذابه، لا أنهم يترددون في الحشر، فالمعنى {يَخافُونَ}
يتوقعون عذاب الحشر.
وقيل: {يَخافُونَ} يعلمون، فإن كان مسلما أنذر ليترك المعاصي، وإن كان من أهل الكتاب أنذر ليتبع الحق.
وقال الحسن: المراد المؤمنون. قال الزجاج: كل من أقر بالبعث من مؤمن وكافر.
وقيل: الآية في المشركين أي أنذرهم بيوم القيامة. والأول أظهر. {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ} أي من غير الله {شَفِيعٌ} هذا رد على اليهود والنصارى في زعمهما أن أباهما يشفع لهما حيث قالوا: {نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] والمشركون حيث جعلوا أصنامهم شفعاء لهم عند الله، فأعلم الله أن الشفاعة لا تكون للكفار. ومن قال الآية في المؤمنين قال: شفاعة الرسول لهم تكون بإذن الله فهو الشفيع حقيقة إذن، وفي التنزيل: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى} [الأنبياء: 28]. {وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]. {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]. {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي في المستقبل وهو الثبات على الايمان.


{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)}
قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الآية. قال المشركون: ولا نرضى بمجالسة أمثال هؤلاء- يعنون سلمان وصهيبا وبلالا وخبابا- فأطردهم عنك، وطلبوا أن يكتب لهم بذلك، فهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، ودعا عليا ليكتب، فقام الفقراء وجلسوا ناحية، فأنزل الله الآية. ولهذا أشار سعد بقوله في الحديث الصحيح: فوقع في نفس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما شاء الله أن يقع، وسيأتي ذكره. وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما مال إلى ذلك طمعا في إسلامهم، وإسلام قومهم، وراي أن ذلك لا يفوت أصحابه شيئا، ولا ينقص لهم قدرا، فمال إليه فأنزل الله الآية، فنهاه عما هم به من الطرد لا أنه أوقع الطرد. روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اطرد هؤلاء عنك لا يجترءون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}. قيل: المراد بالدعاء المحافظة على الصلاة المكتوبة في الجماعة، قاله ابن عباس ومجاهد والحسن.
وقيل: الذكر وقراءة القرآن. ويحتمل أن يريد الدعاء في أول النهار وآخره، ليستفتحوا يومهم بالدعاء رغبة في التوفيق. ويختموه بالدعاء طلبا للمغفرة. {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أي طاعته، والإخلاص فيها، أي يخلصون في عبادتهم وأعمالهم لله، ويتوجهون بذلك إليه لا لغيره.
وقيل: يريدون الله الموصوف بأن له الوجه كما قال: {وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ} [الرحمن: 27] وهو كقوله: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد: 22]. وخص الغداة والعشي بالذكر، لان الشغل غالب فيهما على الناس، ومن كان في وقت الشغل مقبلا على العبادة كان في وقت الفراغ من الشغل أعمل. وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك يصبر نفسه معهم كما أمره الله في قوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28]، فكان لا يقوم حتى يكونوا هم الذين يبتدئون القيام، وقد أخرج هذا المعنى مبينا مكملا ابن ماجه في سننه عن خباب في قول الله عز وجل: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ} إلى قوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع صهيب وبلال وعمار وخباب، قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حقروهم، فأتوه فخلوا به وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، قال: «نعم» قالوا: فاكتب لنا عليك كتابا، قال: فدعا بصحيفة ودعا عليا- رضي الله عنه- ليكتب ونحن قعود في ناحية، فنزل جبريل عليه السلام فقال:
{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} ثم ذكر الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، فقال: {وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] ثم قال: {وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] قال: فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجلس معنا فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله عز وجل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا} [الكهف: 28] ولا تجالس الاشراف {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا} [الكهف: 28] يعني عيينة والأقرع، {وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف: 28]، أي هلاكا. قال: أمر عيينة والأقرع، ثم ضرب لهم مثل الرجلين ومثل الحياة الدنيا. قال خباب: فكنا نقعد مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا بلغنا الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم، رواه عن أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان حدثنا عمرو بن محمد العنقزي حدثنا أسباط عن السدي عن أبي سعيد الأزدي وكان قارئ الأزد عن أبي الكنود عن خباب، وأخرجه أيضا عن سعد قال: نزلت هذه الآية فينا ستة، في وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال، قال: قالت قريش لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنا لا نرضى أن نكون أتباعا لهم فأطردهم، قال: فدخل قلب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك ما شاء الله أن يدخل، فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ} الآية. وقرى {بالغدوة} وسيأتي بيانه في الكهف إن شاء الله. قوله تعالى: {ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أي من جزائهم ولا كفاية أرزاقهم، أي جزاؤهم ورزقهم على الله، وجزاؤك ورزقك على الله لا على غيره. {من} الأولى للتبعيض، والثانية زائدة للتوكيد. وكذا {وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} المعنى وإذا كان الامر كذلك فاقبل عليهم وجالسهم ولا تطردهم مراعاة لحق من ليس على مثل حالهم في الدين والفضل، فإن فعلت كنت ظالما. وحاشاه من وقوع ذلك منه، وإنما هذا بيان للاحكام، ولئلا يقع مثل ذلك من غيره من أهل السلام، وهذا مثل قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وقد علم الله منه أنه لا يشرك ولا يحبط عمله. {فَتَطْرُدَهُمْ} جواب النفي. {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} نصب بالفاء في جواب النهي، المعنى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم فتكون من الظالمين، وما من حسابك، عليهم من شيء فتطردهم، على التقديم والتأخير. والظلم أصله وضع الشيء في غير موضعه. وقد تقدم في البقرة مستوفى. وقد حصل من قوة الآية والحديث النهي عن أن يعظم أحد لجاهه ولثوبه، وعن أن يحتقر أحد لخموله ولرثاثة ثوبيه.


{وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)}
قوله تعالى: {وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي كما فتنا من قبلك كذلك فتنا هؤلاء. والفتنة الاختبار، أي عاملناهم معاملة المختبرين. {لِيَقُولُوا} نصب بلام كي، يعني الاشراف والأغنياء. {أَهؤُلاءِ} يعني الضعفاء والفقراء. {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا} قال النحاس: وهذا من المشكل، لأنه يقال: كيف فتنوا ليقولوا هذه الآية؟ لأنه إن كان إنكارا فهو كفر منهم.
وفي هذا جوابان: أحدهما: أن المعنى اختبر الأغنياء بالفقراء أن تكون مرتبتهم واحدة عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليقولوا على سبيل الاستفهام لا على سبيل الإنكار: {أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا} والجواب الآخر: أنهم لما اختبروا بهذا فآل عاقبته إلى أن قالوا هذا على سبيل الإنكار، وصار مثل قوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} [القصص: 8]. {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} فيمن عليهم بالايمان دون الرؤساء الذين علم الله منهم الكفر، وهذا استفهام تقرير، وهو جواب لقولهم: {أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا} وقل: المعنى أليس الله بأعلم من يشكر الإسلام إذا هديته إليه.

8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15